فصل: تفسير الآيات (109- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (104):

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
قلت: البصائر: جمع بصيرة، وهي عَينُ القلب، كما أن البصر عين البدن، فالبصيرة ترى المعاني القديمة، والبصر يرى الحسيات الحادثة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قد جاءكم} أيها الناس {بصائرُ من ربكم} أي: براهين توحيده، ودلائل معرفته، حاصلةَ من ربكم، تنفتح بها البصائر، وتبصر بها أنوار قدسه، {فمن أبصرَ} الحق، وآمن به، واستعمل الفكر فيه حتى عرفه، {فلنفسه} أبصر، ولها نفع، {ومن عَميَ} عنها، ولم يرفع رأسًا، وضل عن الحق، {فعليها} وباله وضرره، ولا يتضرر بها غيره، {وما أنا عليكم بحفيظ} أرقب أعمالكم وأُجازيكم، وإنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.
الإشارة: البصيرة كالبصر، أدنى شيء يقع فيها يَضُرُّ بناظرها، وهي على أقسام: منها ما تكون عمياء، والعياذ بالله، وهي التي فسد ناظرها بفساد الاعتقاد، كبصيرة الكفار ومن قاربهم، ومنها ما تكون مريضة فقط، لا تقاوم شعاع شمس التوحيد الخاص، وهي بصيرة أهل الغفلة، ومنها ما يخف مرضها فيكون لها شعاع، تدرك قرب نور الحق منها؛ وهي بصيرة المتوجهين من العباد والزهاد ونهاية الصالحين.
ومنها ما تكون قريبة البُرء والصحة، قد انفتحت، لكنها حيرى؛ لما فاجأها من النور، وهي بصيرة المريدين السائرين من أهل الفناء، ومنها ما تكون صحيحة قوية، قد تمكنت من شهود الأنوار، ورسخت في بحر الأسرار، وهي بصيرة العارفين المتمكنين في مقام البقاء، وقد أشار في الحِكَم إلى الثلاثة فقال: شُعاعُ البصيرة يُشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق لا عدمك ولا وجودك، كان اللهُ ولا شيءَ معهُ، وهو الآنَ علَى ما عليه كان.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}
قلت: تصريف الشيء: إجراؤه على أحوال متعاقبة وجهات مختلفة، ومنه: تصريف الرياح لهبوبه من جهات مختلفة، ولما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة في أوقات متعاقبة، شبهت بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة، {وليقولوا}: متعلق بمحذوف، أي: وليقولوا: درست، صرفنا الآيات، واللام للعاقبة، وكذلك: {ولنبينه}: المتعلق واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ومثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات، من قوله: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعَام: 95]، إلى قوله: {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِِرُ مِن رَّبِكُمْ} [الأنعَام: 104] {نُصرِّف الآيات} في المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها، {وليقولوا} لك: {دارسْتَ} أهل الكتاب، وتعلمت ذلك منهم، وليس بوحي، أو {درسَت} هذه الأخبار وعفت، وأخبرت بها من إملاء غيرك عليك، كقولهم: أساطير الأولين، وليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء، وإليهم الإشارة بقوله: {ولنبينه لقوم يعلمون} أي: وليتضح معناه عند قوم آخرين، فيهتدوا به إلى معرفتي وتوحيدي ومحل رضواني وكرامتي، فالخطاب متحد، والأثبر مختلف على حسب السابقة.
الإشارة: ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية كالعلوم اللدنية والمواهب الربانية لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى به، بل لابد من الاختلاف، فقوم قالوا: هذه العلوم... دارس فيها وتعلمها، وقوم قالوا: بل هي من عند الله لا كسب فها، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ} [هُود: 118].

.تفسير الآيات (106- 107):

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {اتبع ما أُوحى إليك من ربك} بالدوام على التمسك به، والاهتداء بهديه، ودم على توحيده، {لا إله إلا هو}؛ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره، {وأعرض عن المشركين}، فلا تحتفل بأقوالهم، ولا تلتفت إلى رأيهم، وهذا محكم، أو: أعرض عن عقابهم وقتالهم، وهو منسوخ بآية السيف، {ولو شاء الله ما أشركوا}: لكن سبقت مشيئته بإشراكهم، ولو أراد إيمانهم لآمنوا، وهو حجة على المعتزلة، {وما جعلناك عليهم حفيظًا}: رقيبًا، {وما أنت عليهم بوكيل} تقوم بأمرهم، وتُلجئهم إلى الإيمان؛ {إَن أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فَاطِر: 23].
الإشارة: الإعراض عن الخلق والاكتفاء بالملك الحق ركن من أركان الطريق، قال الشيخ زروق رضي الله عنه: أصول الطريقة خمسة أشياء: تقوى الله في السر والعلانية، واتباع الرسول في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء، والرضا عن الله في القليل والكثير. اهـ.

.تفسير الآية رقم (108):

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا تَسُبُّوا} أصنامهم {الذين} يدعونها آلهة، ويخضعون لها {من دون الله} أي: ولا تذكروا آلهتهم بسوء، {فيَسُبوا الله عَدْوًا} أي: ظُلْمًا وتجاوزًا عن الحق إلى الباطل، {بغير علم} أي: على جهالة بالله تعالى، وبما يجب أن يذكر به من التعظيم، رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم، فقالوا: لتنتهين عن آلهتنا أو لنَهجُونَّ إلهك، فنزلت. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنُهوا؛ لئلا يكون سبهم سببًا لسب الله تعالى، واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت لمعصية راجحة وجب تركها، فإنَّ ما يُؤدي إلى الشر شر. اهـ. وقال ابن العربي: وقاية العرض بترك سنة واجب في الدنيا. اهـ.
قال تعالى: {كذلك زينَّا لكل أمة عملهم} من الخير والشر، نحملهم على ما سبق لهم توفيقًا أو تخذيلاً، أو يكون مخصوصًا بالشر، أي: زيَّنا لكل أمة من الكفرة عملهم السوء؛ كَسَب الله تعالى وغيره من الكفر، {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئُهم بما كانوا يعملون} من الخير فيُجازيهم عليه، أو من الشر فيعاقبهم عليه.
الإشارة: العارف الكامل لا يُنقِص شيئًا من مصنوعات الله، ولا يصغر شيئًا من مقدورات الله، بل يتأدب مع كل شيء؛ لرؤية صنعة الله في كل شيء، وكذلك المريد اللبيب، يتأدب مع كل من ظهر بالخصوصية في زمنه، كان صادقًا أو كاذبًا؛ لئلا يؤدي إلى تنقيص شيخه، حين يذكر غيره بنقص أو غض. وفي الحديث: «لَعَن الله مَن يَسُبُّ والدَيهِ» فقالُوا: وكيف يسبُّ والدَيه يا رسول الله؟ قال «يَسُبُّ أبا الرجُلِ فيسُبُّ الرجلُ أباهُ وأُمه» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (109- 110):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
قلت: {جهد}: مصدر لعامل محذوف، أي: واجتهدُّوا جهد أيمانهم، وهو حال، أي: وأقسموا جاهدين أيمانهم، ومن قرأ: {أنها}؛ بالفتح، فهو مفعول بيُشعركم، أي: وما يُدريكم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون، وقيل: {لا}: مزيدة، أي: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون إذا رأوها، وقيل: إن، هنا، بمعنى لعل. ومَن قرأ بالكسر فهو استئناف، وتم الكلام في قوله: {وما يشعركم} أي: وما يشعركم ما يكون منهم، فعلى القراءة بالكسر، يُوقف على: {ما يشعركم}، وأما على القراءة بالفتح، فإن كانت أنَّ مصدرية لم يوقف عليه؛ لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى: لعل، فأجاز بعض الناس الوقف، ومنعه بعضهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأقسموا} أي: المشركون، {بالله} واجتهدوا في أيمانهم، {لئن جاءتهم آية} ظاهرة يشهدونها، {ليُؤمنن بها} وبمن جاء بها، {قل} لهم: {إنما الآيات عند الله} وفي قدرته وإرادته، يُظهرها حيث شاء، وليس في قدرتي منها شيء، {وما يُشعركم} أي: وما يُدريكم أيها المؤمنون، {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} بها، لما سبق لهم من الشقاء، وقد كان المؤمنون يتمنَّون إنزالها طمعًا في إيمانهم، وفي تنبيه على أنه تعالى إنما لم ينزلها؛ لعلمه بأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} بها. وقيل: الخطاب للمشركين، ويتأتى هذا على كسر إن، أو على قراءة ابن عامر وحمزة: {لا تؤمنون}؛ بتاء الخطاب، وقرئ: {وما يُشعركم} بالغيبة، فيكون إنكارًا لهم على حلفهم.
ثم ذكر سبب عدم إيمانهم فقال: {ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم} عند نزول الآية، أي: نصرف قلوبهم ونحولها عن الحق، فلا يفقهون بها، ونقلب أبصارهم عن النظر والتفكر، فلا يُبصرون بها الحق، فيصرون عن الإيمان بما أنزل إليك {كما لم يؤمنوا به} أي: بما أنزل من الآيات، {أول مرة ونذرهم في طغيانهم} أي: في كفرهم وجحدهم {يعمهون} أي: يتحيرون، فلا نهديهم هداية المؤمنين.
الإشارة: سألني بعض العوام، فقال لي: ليس لكم ولا لأصحابكم كرامات تظهر فيمن آذاكم، فقد كان أصحاب سيدي فلان وفلان يُظهرون الكرامات، وينفذون في من آذاهم؟ فقلت له: نحن على دم نبينا صلى الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين، فقد أُوذي وضُرِب، فلما خيَّره ملكُ الجبال في أن يُطبق عليهم الأخشَبين أي الجَبلَين قال: «لا، لعل الله تعالى يُخرج منهم مَن يعبُد الله» وقال حين أكثروا إيذاءه: «اللهُمَّ اغفِر لِقَومي فإنَّهُم لا يَعلَمُون» فالأولياء المحققون: رحمة للعباد، يتحملون أذاهم، ويتوجهون لمن آذاهم في الدعاء له بالهداية والتوفيق، فهم قوم لا يشقَى جليسهم، جالَسَهم بالإنكار أو بالإقرار، وقد ظهرت الكرامات على بعض الأولياء ولم ينقطع عنهم الإنكار، فإنَّ الإيمان أو التصديق بالنبي أو الولي إنما هو محض هداية من الكبير العلي.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
قلت: {قبلاً}: بكسر القاف؛ معاينة، وبضمتين: جمع قبيل، أي: ضمناء، وهو حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في الرد على المشركين، حين أقسموا: لئن رأوا آية ليؤمنن بها، فقال تعالى: {ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة} تشهد لك بالنبوة كما اقترحوا، {وكلمهم الموتى} كما طلبوا بقولهم: {فَأتُواْ بِأَبَآئِنَآ} [الدخان: 36]، وقالوا: إنَّ قُّصيًّا كان شيخ صِدق، فابعثه لنا يكلمنا ويشهد لك بما تدعي.
{و} لو {حشرنا عليهم} أي: جمعنا عليهم، {كل شيء} من الحيوانات والجمادات، معاينة، أو ضمناء، تشهد لك بالرسالة والنبوة، {ما كانوا ليؤمنوا} بك في حال من الأحوال، {إلا أن يشاء الله} إيمانهم فيمن لم يسبق له الشقاء، {ولكن أكثرهم يجهلون} أنهم لو أُوتوا بكل آية لم يؤمنوا، فكيف يقسمون بالله جَهدَ أيمانهم على ما لا يعلمون؟، فالجهل بهذا المعنى حاصل لأكثرهم، ومطلق الجهل حاصل لجميعهم، أو: ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون، فيتمنون نزول الآية طمعًا في إيمانهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: في الآية تسكين لقلوب الأولياء الداعين إلى الله، حين يرون الخلق قد حادوا عن باب الله، وتعلقت هممهم بالدنيا الدنية، وتشتتت قلوبهم، وضاعت عليهم أعمارهم، فيتأسفون عليها، فإذا تفكروا في هذه الآية وأمثالها سكنوا وردوا أمر عباد الله إلى مشيئته وإرادته، فلو شاء الله لهدى الناس جميعًا، ولا يزالون مختلفين: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (112- 113):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
قلت: {شياطين}: بدل من {عدو}؛ إذ هو بمعنى الجمع، أو مفعول أول لجعلنا، و{عدوًا}: مفعول ثان، والضمير في {فعلوه}: للوحي، أو للعداوة، و{غرورًا}: مفعول له، أو مصدر في موضع الحال {لتصغى}: عطف على غرورًا، أو متعلق بمحذوف، أي: فعلنا ذلك لتصغى... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في تسلية نبيه عليه الصلاة والسلام: وكما جعلنا لك أعداء من الكفار، {جعلنا لكل نبيٍّ عدُوًّا} من شياطين {الإنس والجن} أي: من مردة الفريقين، وشياطين الإنس أقبح؛ لأنه يأتي في صورة ناصح، لا يدفع بتعوذ ولا غيره. {يُوحِي} أي: يُوسوس، {بعضهم إلى بعض}، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه، يُلقى إليه ذلك الشيطان {زخرف القول} أي: أباطيله، أي: قولاً مزخرفًا مُزَوَّقًا {غرورًا} أي: لأجل الغرور، فإن أراد الله خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه، وكل شيء يقدره وقضائه، {ولو شاء ربك} هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحي، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء، {فذرهم وما يفترون} على الله من الكفر وغيره، فلا تهتم بشأنهم.
وإنما فعلنا ذلك الإيحاء {لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} فيغتروا به، {وليَرضَوهُ} لأنفسهم، {وليقترفوا ما هم مقترفون} أي: وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحي من الجن أو الأنس، وفي الآية دليل لأهل السنة في أن الله خالق الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، فالمعصية خلقها وقدرها، ولم يَرضهَا، {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبيَاء: 23].
الإشارة: كما جعل الله لكل نبي عدوًا من شياطين الإنس والجن؛ جعل للأولياء كذلك؛ تحويشًا لهم إليه، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته، قال في الحِكَم: (إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكنًا إليهم، أراد أن يُزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء). وقال في لطائف المنن: اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا، وتكمل فيهم المزايا، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد، أو يميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رزق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له» كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، ويتعلق بالملك الحق. اهـ.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا، فرأيتُ يُقال لي: مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم. وقال بعضهم: الصيحة من العدو، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم. اهـ.
وقال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه: (عداوة العدو حقًا: اشتغالك بمحبة الحبيب حقًا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب). وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك؛ فإنه هو الذي حركه عليك؛ ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، فاشتغلوا بأذى من آذاهم، فدام الآذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم. اهـ.
وهذا كله إنما يكون في البدايات، كما قال الشاذلي رضي الله عنه: (اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا).. فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم، حكَّمهم في العباد، وأذلهم لهم، فيكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله، ينتصر الله به لنفسه؛ كما نبه على ذلك في لطائف المنن. وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام؛ تشريعًا لما ذكرنا، وتحذيرًا من الانتصار للنفس، وعدم تمحض النصرة للحق. وعند الرسوخ في اليقين، والأمن من مزاحمة الصدق غيره، وقع الإذن في الجهاد، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكامل من أول نشأته، وإنما ذلك تشريع لغيره، وترفيع لرتبته. والله تعالى أعلم.